سناء الشاذلي
بين أيدينا سورة من سور القرآن الكريم تعد علماً للقرآن، وهي الوحيدة من بين السور التي تحمل اسماً من أسماء الله الحسنى "الرحمن"؛ لاختصاص الاسم بجميع العباد وليس المؤمنين وحدهم، أما الوجه الآخر لابتدائها بالرحمن هو اشتمالها على جملة من النعم، وقسمت النعم فيها جزأين، كل جزء يختص بنعمة يتفضل فيها الرحمن على عباده: الأولى: تندرج تحت مسمى "النعم الدنيوية"، والثانية: "النعم الأخروية"، ليعلمنا الرحمن سبحانه أن رحمانيته تخص العباد كلهم مؤمنهم وكافرهم، محسنهم ومسيئهم، صغيرهم وكبيرهم، وكل ما يدب على الأرض من دواب وجان، وأن جميع ما خلق الرحمن مسخر للإنسان طوعاً أو كرهاً، وما على الإنسان إلا الاعتراف بهذه النعم وعدم التكذيب بها، مع التحرز من اتخاذ الشريك له سبحانه، أياً كان نوع الشريك، حتى يكون إيمانه خالصاً من كل الشوائب.
خصوصاً ونحن نعلم أن الشركيات قد يقع فيها الإنسان دون أن يشعر، فترى الناس ينسبون هذه النعم لأسبابها لا مسببها، أو لقدرة البشر وما وصلوا إليه من تقنيات، وأحياناً إلى الطبيعة، وأحياناً كثيرة إلى عملهم وجهدهم، متناسين المسبب الأول لهذه "النعم"، لذا ترى الآيات تكرر على مسامعنا (فَبِأيّ آلاء رَبّكمَا تُكِّذّبَانِ) (31 مرة) طرداً للغفلة، وتأكيداً للحجة.
ونلاحظ أن الله عدّد في هذه السورة نعماءه، وذكّر خلقه بآلائه، ثم أتبع كل خلة وصفها ونعمة وضعها بآية (فَبِأيّ آلاء رَبّكمَا تُكِّذّبَانِ)، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها، ومع تعدد الآراء في تفسير "الآلاء"، فمن قائل: إنها بمعنى "النعم"، إلا أن معاني الآيات قد تحمل الرأيين؛ إذ توحي الآيات بخطاب الثقلين بعد تنبيههم، فيجتمع المعنيان بقول: بأي نعمة من نعم ربكما وقدرته على خلقها وإخراجها وتسخيرها تكذبان.
وهذا السامع بعد سماعه للآيات وإقراره بها سيخجل لا محالة حين يسأل نفسه: بأي شيء من تلك النعم تكذّب؟
- أولى النعم:
ودعونا نبدأ بأولى هذه النعم "القرآن"، ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد ذلك من نعمائه وأفعاله، وملكه وقدرته، خرج إليهم من الرحمة العظمى ألا وهي "رحمانيته"؛ لأن القرآن أعظم روحانية، أنزلها الله سبحانه للعالمين تندرج تحت مسمى النعم "الأعلى" المهيمنة على كل الكتب المحرفة والمذاهب الماضية والمعاصرة، وإذ هي نعمة لا تعلوها نعمة جاءت لسعادة البشرية وإصلاحها، ثم أردفها سبحانه بنعمة أخرى "خَلقية" ألا وهي "خلق الإنسان".
- ترابط عجيب: والمتأمل للترابط العجيب بين الثلاث آيات الأولى، يدرك أهمية "الإنسان" واستغلاله لنفسه كإنسان أنزل الله عليه "نعمة العقل"، كي يقوم بها على أكمل وجه، وكإنسان ناطق أكرمه الله "بالبيان"، ليميز بين ما هو رحماني وضده إذ علمه: اللغات، والفهم، والكتابة، والخط، والقلم بأمر البيان (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن/ 1-4)، ثم ينتقل "الإنسان" إلى نعمة أخرى تندرج تحت مسمى "النعم العلوية" ليقترب من تحقيق هذا البيان؛ إذ سخر له (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) (الرحمن/ 5-6)، وكأنهما دليلان على حياته يسيران بحسبان لا يحيدان، يقومان بما أمرهما الله على أكمل وجه، يعلمانه أن الضوء والظلام، كلاهما يعملان فهل بقي لـ"حامل البيان" حجة في التكاسل عن القيام بأمر القرآن.
- نعم أرضية:
ثم تنتقل بهذا المخلوق إلى نعمة أخرى تندرج تحت مسمى النعم "الأرضية"، لتقول له: ها قد جاءك من العلم أفضله، وهو العلم "القرآني"، وسخر الله لك ما في السماء، وأعقبك بنعمة من حيث منشئك في الأرض بما فيها من أشجار وثمار، فما الذي يمنعك عن التعلم وتعليم القرآن؟ أم ما الذي يجعلك تعصي الإله بهذه النعم؟ وسواء كان النجم بمعنى الشجر الذي لا ساق له، أو بمعنى النجم في السماء، فهي أولاً وأخيراً نعم،، "فمعنى نجم": كل ما طلع وظهر، وهي نعم ظهرت وطلعت كضوء الشمس، وبالعودة مرة أخرى إلى "النعم العلوية" (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) (الرحمن/ 7-9)، ينقل المشهد القرآني إلى نعمة أخرى بها توزن أعمال العباد بميزان العدل الإلهي، أو الميزان المعروف للأوزان، على اختلاف الآراء في الميزان يبقى "الميزان" من نعم الله التي بها يصلح حال العباد، وأنعم بها من نعمه يردفها معنى أعم للميزان كمترادفة دنيوية أخروية تقول: اعدل في ميزان الدنيا يعدل لك في ميزان الآخرة، فلا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة، ولتأكيد المعنى في نفس القارئ أعيد تكرار "الميزان" أربع مرات؛ ليشعره بأن الحياة لا تستقيم بلا ميزان إلهي وإنساني.
- سؤال إلهي:
وتتوالى النعم "الأرضية" على كلا النوعين "الإنس والجن"، بوضع الأرض لكليهما وما فيها من فاكهة ونخل، وحب وعصف وريحان: وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) (الرحمن/ 10-12)، ثم تختم هذه الجزئية بسؤال إلهي (فَبِأيّ آلاء رَبّكمَا تُكِّذّبَانِ): بأي آلاء وقدرة يا معشر الإنس والجن تكذبان، مع ملاحظة أن جنس "الجن" لم يذكر في بداية السورة كما ذكر خلق الإنسان، وهو ما يشعرك أن الإنسان كريم على الله، فذكر في بداية السورة قبل الجن، وذكر هنا أيضاً، وذكر بعد أول تقرير للنعم (فَبِأيّ آلاء رَبّكمَا تُكِّذّبَانِ) فقال: (خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن/ 14-16)، فحصر النعم السابقة المذكورة في الآية الثانية عشرة بهاتين الآيتين، وأردفها بسؤال إلهي ثان: (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، فحين تتذكر يابن آدم أصل خلقك وأنت أيها "الجني" لا يسعك إلا السجود إجلالاً وتعظيماً لله، فهل ستتكبر على الله، وهل ستنكر النعم المذكورة سابقاً التي هيئت لك قبل أن تخلق على الأرض ونعمة وجودك ناطقاً يستطيع أن يعبر عما يدور في خلده من آلام، وأحزان وأفراح.
وإذا اعترفت يابن آدم واستشعرت ما سبق فلما لا تنتقل مرة أخرى إلى النعم "العلوية الأرضية" المتمثلة بـ(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن/ 17-25)، إنها نعم تشعرك بصغر جرمك وتناهيه في الصغر أمام هذه المخلوقات العظيمة، ورغم ذلك هي مسخرة بأمر الله لك، ألا تدعوك هذه المخلوقات إلى الإيمان أكثر؟ ألا تدعوك للتفكر إذ هو نوع من أنواع العبادة؟ التفكر الذي يقودك إلى اختلاف مطالع المشارق والمغارب صيفاً وشتاءً كإعجاز إلهي يدل على قدرته، التفكر الذي يدعوك إلى تعظيم الله وإجلاله، إذ جعل بين البحرين حاجزاً، هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج لا يطغى أحدهما على الآخر، ومن كليهما يأكل الإنسان لحماً طرياً ويلبس حلية مختلفة الألوان، التفكر الذي يقودك إلى قدرته في إخراج اللؤلؤ والمرجان كما خلقت أنت من ماء – فترى خلق اللؤلؤ بأحجامه ينطق بإحياء الله لمخلوقاته كل يوم، فهل بعد هذه النعم من تكذيب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ).
- نعمة الموت:
ثم ينقلنا المشهد القرآني إلى نعمة عظيمة هي نعمة "الموت": (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * َبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن/ 26-32)، ليذكرك بأن بعد النعم حساب (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر/
، ووجه النعمة أن في فناء الخلق "التسوية" بينهم في "الموت" حيث يستوي الفقير والغني والضعيف، وكلهم يحاسب بما عمل، ووجه آخر لنعمة "الموت" أن يعرف الإنسان أن موجد النعم هو الذي سيبقى وحده (... كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص/ 88)، وهذا يقودك إلى الإقرار بالربوبية والإلوهية معاً (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ) (الرحمن/ 27).